تحلّق وتقع، ولكنّها قوية بما فيه الكفاية لتحلّق مجددًا
في إحدى القرى المهمشة، التي بالكاد تلحظ وجودها على الخريطة الجغرافية، تسكن عائلة بسيطة يتعاون فيها الأب والأم على تربية أبنائهم وتنشئتهم تنشئة سليمة أساسها الثقة بالنفس والسعي الدؤوب لتطوير الذات. في هذا البيت الصغير، ولدت طفلة جميلة بعينين لامعتين متطلعتين لمستقبل مشرق، أختًا لعشر من الأخوات وعدد من الإخوة، أسماها والدها تقى.
كبرت تقى وكبر معها حلمها، وصارت تحلق كفراشة في منزلها لترسم البهجة على وجه وفي قلب كل من يرى لهفتها للحياة. كانت طفلة طموحة، مقبلة على الحياة، لا شيء يقف أمام حلمها أو يعيق ابتسامتها البريئة، حتى جاء ذلك اليوم الذي قلب كل الموازين!
قبل عامين، وأثناء لعبها في ساحة منزلها، لاحظ والد تقى أنها حين تحاول الركض أو المشي فإن حركتها غير طبيعية، فشك في وجود خلل ما في قدمها.
وكأن تقى توقفت عن التحليق ونشر السعادة في كل مكان، خيم الحزن على بيتها. ولكن برغم الظروف الصعبة، فإن أبا تقى لم يتوانَ في البحث عن الأسباب التي جعلت في حركة فراشته شيئًا من الاعوجاج، فتنقل بها من طبيب إلى آخر ليعرف ما بها صغيرته. وشاءت الأقدار أن تكون صدمة العائلة باكتشاف وجود كتلة سرطانية نتج عن استئصالها بتر قدم الطفلة، واستبدالها بقدم اصطناعية.
صحيح أن الكتلة قد تم استئصالها جسديًا، لكن حكاية أخرى من المعاناة وألم الروح كانت قد بدأت!
كان العامان اللذان تلا تلك الحادثة الأليمة في غاية الصعوبة على تقى وعائلتها. كيف لا وقد فقدت جزءًا من جسدها الساعي بروحه وقلبه نحو القمة! مضت أيام عصيبة ملؤها التحديات والتطلعات والتأرجح على صراط المجهول، كانت فيها تقى قد بدأت تفقد الأمل المشع من عينيها، فصارت أسيرة لجدران باردة كادت أن تطبق الخناق عليها. إلا أن عائلة تقى وأصدقاؤها لم يتركوها وحدها في تلك الظروف، وضلوا داعمين لها ولأحلامها.
"وجود شيء مختلف لدي جعلني أشعر بأني مختلفة عن بقية الأطفال بعمري. لقد واجهت تحديات جمة في مدرستي، حيث لم يكن بإمكاني الوصول إلى مرافق المدرسة، لأنها لم تمتلك تسهيلات لذوي الإعاقة، مما جعلني انتقل لمدرستي الحالية. الأمور الآن أفضل من حيث سهولة الوصول إلى المرافق". تقول تقى. "ولكن تقبّل زميلاتي لي لا زال يشكل عائقًا، إلا أن معلماتي لا يجعلنني أشعر بأي نوع من التمييز، بل يعاملنني كبقية زميلاتي. ويبقى التحدي الأساسي أمامي هو الوصول إلى المدرسة، حيث أضطر إلى قطع المسافة من منزلي إلى المدرسة وبالعكس مشيًا على الأقدام، كما ويحدّق المارّون عني بقدمي الاصطناعية. لكنني تعلمت التجاهل مع الأيام، فهذه القدم جزء من هويتي الآن، ولا أخجل منها."
حين قامت مؤسسة الرؤية العالمية وشبكة حماية الطفولة بتشكيل لجنة الأطفال للحماية والمناصرة في يطا تحت برنامج حماية الطفل والمناصرة الخاص بالرؤية العالمية، رشح أصدقاؤها تقى للانضمام لتلك المجموعة. ولم يكن قرار الخروج من دائرة الظلمة والعزلة بالأمر الهين بالنسبة لها، لكن سمو الهدف وقوة الإرادة قادران على انتشال الغارقين في مستنقعات عميقة.
قررت تقى أن تمنح نفسها فرصة التجربة، وأن تعاود الوقوف على قدميها ومواجهة القادم. فتوجهت إلى مقابلة الانضمام لتلك المجموعة. وخلال المقابلة لفتت انتباه أعضاء لجنة المقابلة ببريق حضورها وعمق تفكيرها، إلا أنه كان لديها شيء من التردد والخجل.
وبما ليس فيه مفاجأة، اختيرت تقى لتكون عضو في لجنة الأطفال للحماية والمناصرة لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها. كان انضمام تقى أبو عيد للجنة الأطفال للحماية والمناصرة خطوة مهمة لإعادة رصف طريقها نحو الحلم. حيث استطاعت نتيجة إشراكها في لقاءات وتدريبات اللجنة أن تتغلب على الخجل والتردد والعزلة التي تملكتها لفترة من الوقت، وأن ترفع صوتها الذي لا تحده حدود من جديد. صارت تقى أكثر اجتماعية وانخراطًا مع المجتمع المحيط، وصارت تطالب بحقوق أمثالها من الأطفال في كل مكان، لتكون صوت من لا صوت له في تلك البقعة النائية من العالم.
"لقد استفدت من التدريبات التي نفذتها مؤسسة الرؤية العالمية مستهدفة لجنة الأطفال للحماية والمناصرة. ومن أكثر تلك التدريبات التي أضافت لي هو تدريب "معرفة الذات"، حيث ساعدني على معرفة أشياء لم أكن أعرفها من قبل عن نفسي." قالت تقى.
ووجهت تقى كلمة لكل الأطفال ذوي الإعاقة: "انظروا حولكم، فالعالم يمنحنا مساحة كبيرة للعيش فيها. ابسطوا أياديكم، واستغلوا الفرص المتاحة لكم في مدارسكم وبيوتكم وفي الشوارع. عيشوا بأجسادكم كما هي، وأيً كانت إعاقتكم، بإمكانكم تحقيق الكثير ووصول العلى".